فصل: سورة الْفُرْقَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.سورة الْمُؤْمِنُونَ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَفِي رِوَايَةِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ حَيْثُ يَسْجُدُ».
وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَلْتَفِتُونَ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْظُرُونَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَأَقْبَلُوا عَلَى صَلَاتِهِمْ وَنَظَرُوا أَمَامَهُمْ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَلَّا يُجَاوِزَ أَحَدُهُمْ بَصَرَهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ إِذَا كَانَ قَائِمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِلَّا بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ.

.سورة النُّورِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ النُّورِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَأَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَوَجَدْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ آيَاتٍ سِوَى هَذِهِ.

.فَأُولَاهُنَّ قَوْلُهُ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

لِلْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ النِّكَاحُ هَاهُنَا الْوَطْءُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الزَّانِي هَاهُنَا الْمَجْلُودُ فِي الزِّنَا لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً مَجْلُودَةً فِي الزِّنَا أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ الزَّانِيَةُ الَّتِي تَتَكَسَّبُ بِزِنَاهَا وَتُنْفِقُ عَلَى زَوْجِهَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ أُنْزِلَتْ فَمَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
كَمَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى} [النور: 32] مِنْكُمْ فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْفُتْيَا يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ زَنَا بِامْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ ثُمَّ يُرِيدُ نِكَاحَهَا، قَالَ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ مِنْ وَطْئِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْآيَةِ الْقَوْلُ فِيهَا كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِمَّنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا الْوَطْءُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] الْآيَةَ، قَالَ: الزَّانِي مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ مِثْلِهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ وَحُرِّمَ الزِّنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتَارَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ وَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الزَّانِيَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مُشْرِكًا بِحَالٍ وَأَنَّ الزَّانِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُشْرِكَةً وَثَنِيَّةً بِحَالٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى الزَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ لَا تَسْتَحِلُّ الزِّنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْرِكَةً تَسْتَحِلُّ الزِّنَا وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ مُشْرِكٍ يَسْتَحِلُّ الزِّنَا، وَحُرِّمَ ذَلِكَ الزِّنَا وَهُوَ النِّكَاحُ الْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الزَّانِيَ الْمَجْلُودَ لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً مَجْلُودَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ قَوْلُ الْحَسَنِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْجَوْزِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: الزَّانِيُ الْمَجْلُودُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً مَجْلُودَةً مِثْلَهُ أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ الْمَجْلُودَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ مَجْلُودٌ مِثْلُهَا أَوْ مُشْرِكٌ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُ مِنَ الْحَسَنِ يَزْعُمُ أَنَّ الزَّانِيَ الْمَجْلُودَ لَا يَنْكِحُ إِلَّا مِثْلَهُ وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] فَقَالَ مَا يُعْجِبُكَ مِنْ هَذَا حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزَّانِيُ الْمَجْلُودُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا مِثْلَهُ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا كَمَا نُسِخَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا كَانَ فِي نِسْوَةٍ كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِمَّا تَكْسِبُهُ مِنَ الزِّنَا فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى نِكَاحَهُنَّ، قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] قَالَ: كُنَّ نِسَاءٌ بَغَايَا وَكَانَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ مِهْزَمٍ فَكَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهَا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ يَعْنِي ابْنَ لَاحِقٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ وَكَانَتْ بِأَجْيَادٍ وَكَانَتْ تُسَافِحُ فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذُكِرَ فِيهِ السَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ فَإِذَا صَحَّ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ النَاسِخَةُ بَعْدَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27].
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمَّا قَالَ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] كَانَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبُيُوتِ ثُمَّ نَسَخَ مِنْ هَذَا وَاسْتَثْنَى فَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمُ} [النور: 29] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْآيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] يَعْنِي بِهِ الْبُيُوتَ الَّتِي لَهَا أَرْبَابٌ وَسُكَّانٌ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَرْبَابٌ يُعْرَفُونَ وَلَا سُكَّانَ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عُلَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قَالَ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] قَالَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْنِسُوا قَالَ ثُمَّ اسْتَثْنَى الْبُيُوتَ الَّتِي عَلَى طُرُقِ النَّاسِ وَالَّتِي يَنْزِلُهَا الْمُسَافِرُونَ فَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] يَقُولُ لَيْسَ لَهَا أَهْلٌ وَلَا سُكَّانٌ بِغَيْرِ تَسْلِيمٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ قَالَ مَتَاعٌ لَكُمْ} قال: مَنَافِعَ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
وَرَوَى يَزِيدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، قَالَا: ثُمَّ نَسَخَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمُ} [النور: 29].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُحْكَمَتَانِ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
فأما مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْطَأَ الْكَاتِبُ إِنَّمَا هُوَ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا فَعَظِيمٌ مَحْظُورٌ الْقَوْلُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، وَمَعْنَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] بَيِّنٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قَالَ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هوُ التَّنَحْنُحُ وَالتَّنَخُّمُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَشْتَقُّونَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] حَتَّى تَسْتَعْلِمُوا قَالَ تَعَالَى {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى حَتَّى تَأْنَسُوا بِأَنَّ الَّذِي تُرِيدُونَ الدُّخُولَ إِلَيْهِ قَدْ رَضِيَ دُخُولَكُمْ وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حَسَنٌ أَيْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لَهَا أَرْبَابٌ وفيها سُكَّانٌ حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا فَتَقُولُوا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخَلُ؟ أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذَا مِنَ التَّنَحْنُحِ وَالتَّنَخُّمِ وَالْإِذْنِ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 54] مِنْ أَنْ تَدْخُلُوا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَتَرَوْا مَا لَا تُحِبُّونَ أَنْ تَرَوْهُ وَتَعْصُوا اللَّهَ تَعَالَى {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ فَتَلْزَمُونَهُ فَهَذِهِ مُحْكَمَةٌ فِي حُكْمِ غَيْرِ حُكْمِ الثَّانِيَةِ وَالثَّانِيَةُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا الْعُلَمَاءُ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] قَالَ: هِيَ بُيُوتُ الْخَانَاتِ وَبُيُوتُ الْأَسْوَاقِ.
فَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ هِيَ بُيُوتُ التُّجَّارِ والْحَوَانِيتِ فِي الْقِيسَارِيَّاتِ وَالْأَسْوَاقِ فَقَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْحَوَانِيتَ الَّتِي فِيهَا مَتَاعُ النَّاسِ لَا يَحِلُّ دُخُولُهَا إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا وَإِنْ فَتَحَهَا وَجَلَسَ لِأَنَّ النَّاسَ أَحَقُّ بِأَمْلَاكِهِمْ وَأَيْضًا فَنَصُّ الْقُرْآنِ {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] وَلَيْسَ مَتَاعُ التُّجَّارِ بِمَتَاعٍ لِلْمُخَاطَبِينَ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ بُيُوتٌ كَانَتْ فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ يَضَعُ النَّاسُ فِيهَا أَمْتِعَتَهُمْ فَأُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبُيُوتُ إِنَّمَا بُنِيَتْ لِهَذَا فَهِيَ مُبَاحَاتٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى إِذْنٍ وَمَنْ أَجْمَعِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] قَالَ: لَيْسَ يَعْنِي بِالْمَتَاعِ الْجِهَازَ وَلَكِنْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجَةِ إِمَّا مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ قَوْمٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ أَوْ خَرِبَةٌ يَدْخُلُهَا الرَّجُلُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ دَارٌ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فَهَذَا مَتَاعٌ وَكُلُّ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا شَرْحٌ حَسَنٌ مِنْ قَوْلِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ، وَالْمَتَاعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَنْفَعَةُ وَمِنْهُ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ وَمِنْهُ {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، فَالْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لَكُمْ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ دُخُولِ رَجُلٍ إِلَى دَارٍ يُقَلِّبُهَا لِشَراءٍ أَوْ إِجَارَةٍ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ سِوَى ابْنِ زَيْدٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا.

.بَابٌ فِي ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} [النور: 58].
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سِتُّ أَقَوالٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ نَدْبٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ فِي النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَانَ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبًا لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِغْلَاقٌ وَلَا سُتُورٌ فَإِنْ عَادَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ أَمْرَهُ حَتْمٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
كَمَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] الْآيَةَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ.
قَالَ الْحَرْبِيُّ، وَحَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ وَهُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] قَالَ: لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا قَوْلٌ.
وَرَوَى أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]، {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ.
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] قَالَ: النِّسَاءَ عُنِيَ بِهَا. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقَوالٍ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهَا بَيِّنُ الْخَطَأِ لِأَنَّ الَّذِينَ لَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي وَاللَّائِي.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] قَالَ: هِيَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الرَّابِعُ يَسْتَحْسِنُهُ أَهْلُ النَّظَرِ لِأَنَّ الَّذِينَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمُ النِّسَاءُ فَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ وَالْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ غَيْرَ أَنَّ فِيَ إِسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ.
وَقُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] لَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السُّتْرَةَ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْقَوْمُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوِ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمُهُ وَهُوَ مَعَ أَهْلِهِ فِي حَالِ جِمَاعٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ الْحَالَاتِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْيُسْرِ وَبَسَطَ فِي الرِّزْقَ فَاتَّخَذَ النَّاسُ السُّتُورَ وَالْحِجَالَ فَرَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ الْخَامِسُ: مَتْنُهُ حَسَنٌ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ وَلَكِنْ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَالٍ ثُمَّ زَالَتْ فَإِنْ كَانَ مِثْلُ تِلْكَ الْحَالِ فَحُكْمُهَا قَائِمٌ كَمَا كَانَ، وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَاجِبَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَدْ تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهِنَّ.
قَالَ عَطَاءٌ حَفِظْتُ آيَتَيْنِ وَنَسِيتُ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ} [النور: 58] حَتَّى تُخْتَمَ الْآيَةُ وَفِي الرَّجُلِ يَقُولَ لِلْآخَرِ أَنَا أَكْرَمُ مِنْكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ عَامَّةٌ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْجَوْزِيِّ، عَنْ يعقوبَ الدَّوْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] قَالَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ قُلْتُ إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْتَعَانُ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ:

قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] الْآيَةَ.
لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْآيَةِ إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا طَعَامًا لِأَحَدٍ إِذَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا} [النور: 61] الْآيَةَ وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أُبِيحَ لَهُ إِذَا أُذِنَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَانَ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ لَا يَأْكُلُونَ مَعَ النَّاسِ لِئَلَّا يَكْرَهُ النَّاسُ ذَلِكَ فَأُزِيلَ هَذَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَانَ الْإِنْسَانُ يَتَوَقَّى أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ يَقْصُرُ فِي الْأَكْلِ وَكَذَا الْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ فَأُزِيلَ ذَلِكَ وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ فَمِمَّنْ قَالَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدِ انْقَطَعَ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ عَلَى أَبْوَابِهِمْ أَغْلَاقٌ فَكَانَتِ السُّتُورُ مُرْخَاةٌ فَرُبَّمَا جَاءَ الرَّجُلُ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَهُوَ جَائِعٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَسَوَّغَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْكُلَ ثُمَّ صَارَتِ الْأَغْلَاقُ عَلَى الْبُيُوتِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَهَا فَذَهَبَ هَذَا وَانْقَطَعَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حَظْرِ هَذَا مَا حَدَّثَنَاهُ بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُحْرِزُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ فَلَا يَحْتَلِبْنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَظْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ قَوْلُ جَمَاعَةٍ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَإِنَّ الطَّعَامَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] إِلَى {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يُؤَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ وَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ وَالتَّمْرَ وَيَشْرَبَ اللَّبَنَ.
فَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْإِذْنِ لِأَنَّ النَّاسَ تَوَقَّفُوا أَنْ يَأْكُلُوا لِأَحَدٍ شَيْئًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ تِجَارَةٍ أَوْ عِوَضٌ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ فَأَبَاحَ اللَّهُ ذلِكَ إِذَا أَذِنَ فِيهِ صَاحِبُهُ وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ عَلَى الْإِذْنِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُطْلِقْ ذَلِكَ صَاحِبُهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْإِذْنِ وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] لِأَنَّ مَنْزِلَ الرَّجُلِ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَا لَيْسَ لَهُ وَمَا يَكُونُ لِأَهْلِهِ {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الِابْنَ فِيهَا فَتَأَوَّلَ هَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْزِلَ ابْنِهِ وَمَنْزِلَهُ وَاحِدٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَعَارَضَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَلِ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» بِقَوِيٍّ لَوَهَاءِ هَذَا الْحَدِيثُ وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ إِذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ مَالَ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ لِأَبِيهِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْتَ لِأَبِيكَ وَمَالُكَ مُبْتَدَأٌ أَيْ وَمَالُكَ لَكَ وَالْقَاطِعُ لِهَذَا التَّوَارُثِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مِقْسَمٌ.
كَمَا رَوَى سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَأْكُلُوا، مَعَ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا نَاسِخًا لِلْحَظْرِ عَلَيْهِمُ الْأَكْلُ مَعَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا كَانَ يَكُونُ لَيْسَ لِلْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى حَرَجٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ قَدِ احْتَالَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: قَدْ تَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى فِي وَفِي بِمَعْنَى عَلَى وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا لَيْسَ فِي الْأَعْمَى حَرَجٌ وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ الْأَعْمَى لَا يَأْكُلُ مَعَ الْبَصِيرِ وَكَذَا الْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ مِنْهُ أَذًى فَيَقُولُ يَجُوزُ وَلَكِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الْآيَةَ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إِذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ فَكَانُوا يَأْذَنُونَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِهِمْ إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ. وَكَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا وَيَقُولُونَ نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ طَيْبَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَاتِ فَأَحَلَّهُ لَهُمْ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْغَزْوِ دَفَعُوا مَفَاتِحَهُمْ إِلَى الزَّمْنَى وَأَحَلُّوا لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِهِمْ فَكَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَتَوَقُّونَ وَيَقُولُونَ إِنَّمَا أَطْلَقُوا لَنَا هَذَا عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61].
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّمَّانُ الْأَنْبَارِيُّ، بِالْأَنْبَارِ، قَالَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيِّ: قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُوعِبُونَ فِي النَّفِيرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا يَدْفَعُونَ مَفَاتِيحَهُمْ إِلَى ضَمْنَاهُمْ وَيَقُولُونَ إِنِ احْتَجْتُمْ فَكُلُوا فَيَقُولُونَ إِنَّمَا أَحَلُّوهُ لَنَا عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: يُوعِبُونَ أَيْ يَخْرُجُونَ بِأَجْمَعِهِمْ فِي الْمَغَازِي يُقَالُ: أَوْعَبَ بَنُو فُلَانٍ لِبَنِي فُلَانٍ إِذَا جَاءُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَيُقَالُ بَيْتٌ وَعِيبٌ إِذَا كَانَ وَاسِعًا يَسْتَوْعِبُ كُلَّ مَا جُعِلَ فِيهِ وَالضَّمْنَى هُمُ الزَّمْنَى وَاحِدُهُمْ ضَمِنٌ مِثْلُ زَمِنٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ لِمَا فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ التَّوْقِيفِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا فَإِنَّ تَأْكُلُوا خَبَرُ لَيْسَ وَيَكُونُ هَذَا بَعْدَ الْإِذْنِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ فِي الْغَزْوِ وَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ أَنْ خَبَرَ لَيْسَ.
فأما {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النحل: 80] فَمَعْنَاهُ مِنْ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ كَذَا ظَاهِرُهُ وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ بِغَيْرِ إِذَنٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَرَوَى مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، لَا بَأْسَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِكَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكَ. وَيَتَأَوَّلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُكُ وَكَانَ صَدِيقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْإِذْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.سورة الْفُرْقَانِ:

حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ هَذَا مَنْسُوخٌ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُونَ بِحَرْبِ الْمُشْرِكِينَ وَلَيْسَ سَلَامًا مِنَ التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّسَلُّمِ تَقُولُ الْعَرَبُ سَلَامًا أَيْ تَسَلُّمًا مِنْكَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَالُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَلَا نَعْلَمُ لِسِيبَوَيْهِ كَلَامًا فِي مَعْنَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَزَعَمَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ مَثَلَهُ يَعْنِي مَثَلُ قَوْلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ مِمَّا يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَصْدَرِ، قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ سَلَامًا يُرِيدُ تَسَلُّمًا مِنْكَ كَمَا قُلْتَ بَرَاءَةٌ مِنْكَ أَيْ لَا أتَلَبَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ قَالَ: وَزَعَمَ أَنُّ أَبَا رَبِيعَةُ كَانَ يَقُولُ إِذَا لَقِيتُ فُلَانًا فَقُلْ سَلَامًا فَسَأَلَهُ فَفَسَّرَ لَهُ مَعْنَى بَرَاءَةٌ مِنْكَ، قَالَ: وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ فِيمَا زَعَمَ مَكِّيَّةٌ فَلَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يُسْلِمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ لَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ أَخْطَأَ فِي هَذَا وَأَسَاءَ الْعِبَارَةَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَلَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يُحَارِبُوا الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أُمِرُوا بِحَرْبِهِمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: كَلَامُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ أَيْضًا عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ إِذَا خَاطَبَكُمُ الْجَاهِلُونَ فَقُولُوا سَلَامًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّسْخُ فِيهَا.
فأما كَلَامُ سِيبَوَيْهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَتَسَلَّمُوا مِنْهُمْ وَيَتَبَرَّءُوا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْحَرْبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 60] وَقَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.

.سورة الشُّعَرَاءِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ الشُّعَرَاءِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ وَفِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ شُعَرَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ} [الشعراء: 225] اسْتَثْنَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّعَرَاءِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: قَدْ أَدْخَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضُ النَّاسِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا يَعْنِي {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227].
وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ يَتَّبِعُهُمْ ضُلَّالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَ ثُمَّ قَالَ {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] يَقُولُ فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] يَقُولُ أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ قَالَ ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] فِي كَلَامِهِمْ {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227] رَدُّوا عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ وَيَزِيدُهُ بَيَانًا قَوْلُهُ لِلْكُفَّارِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي بَعْدَهُ وَقَوْلُهُ يَتَّبِعُهُمْ ضُلَّالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ الْكَلَامَ عَامٌّ وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] قَالَ: الرُّوَاةُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِعُمُومِ الظَّاهِرِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] كَمَا قَالَ وَهُوَ تَمْثِيلٌ أَيْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْبَاطِلِ يُفْتَنُونَ فَيَمْدَحُونَ بِالْبَاطِلِ وَالتَّزَيُّدِ وَكَذَا يَهْجُونَ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَقَوْلُهُ: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ تَصْحِيحُهُ فِي النَّحْوِ أَكْثَرُ قَوْلِهِمُ الْكَذِبُ وَدَلَّ يَكْذِبُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ هَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ اسْتِثْنَاءً لَا نَسْخًا، تَقُولُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا عَمْرًا لَا يُقَالُ هَذَا نَسْخٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّكَ تَبَيَّنَ بِهِ كَمَا تُبَيِّنُ بِالتَّوْكِيدِ وَقَوْلُهُ: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] فِي كَلَامِهِمْ قَوْلٌ حَسَنٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَغَيْرُهُ يَقُولُ {وَذَكَرُوا اللَّهَ} [الشعراء: 227] فِي شِعْرِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِعُمُومِهِ، {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227] كَمَا قَالَ أَيِ انْتَصَرُوا مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْمُؤْمِنِينَ بِهِجَائِهِمْ إِيَّاهُمْ.

.سورة النَّمْلِ، وَالْقَصَصِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَالرُّومِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: لَمْ نَجِدْ فِيهِنَّ إِلَّا مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْو أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّلَامِ عَلَى الْكُفَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا فَأَبَاحَ السَّلَامَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ هَذَا قَوْلٌ جَمِيلٌ وَمُخَاطَبَةٌ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ السَّلَامِ وَلَا نَسْخَ فِيهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَحْتَجُّ قَائِلُهُ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُفَّارِ «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ» قَالَ فَفِي هَذَا نَسْخٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكفار «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ» فَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْمُتَارَكَةِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ دَعْنِي بِسَلَامٍ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ لِلْمُتَارَكَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ أَبَاحَ السَّلَامَ عَلَى الْكُفَّارِ غَلَطٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنَ السَّلَامِ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ التَّسَلُّمِ وَالْمُتَارَكَةِ، وَحَظْرُ السَّلَامِ عَلَى الْكُفَّارِ وَاجِبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] وَكَذَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهَا مُخَاطَبَةٌ حَسَنَةٌ قَوْلٌ حَسَنٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَسْلَمُوا فَكَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ شَيْئًا قَدْ بَدَّلُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ قَدْ وَقَفُوا هُمْ عَلَى ذَلِكَ فَيُعْرِضُونَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَهُمْ وَكَانُوا يَصْفَحُونَ عَنْهُمْ وَيَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: أَصْلُ اللَّغْوِ فِي اللُّغَةِ الْبَاطِلُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُلْغَى وَيُطْرَحَ وَمَعْنَى أَعْرِضُوا عَنْهُ لَمْ يَصْغُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَمِعُوا وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَنَّ بَعْدَهُ {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] أَيْ قَدْ رَضِينَا بِأَعْمَالِنَا لِأَنْفُسِنَا وَرَضِيتُمْ بِأَعْمَالِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [القصص: 55] أَيْ أَمَنَةٌ لَكُمْ مِنَّا أَنَّا لَا نُحَاوِرَكُمْ وَلَا نُسَابِّكُمْ {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] لَا نَطْلُبُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ مُحْكَمٌ يُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ مُحْكَمٌ يُرَادُ بِهِ ذَوُو الْعَهْدِ مِنْهُمْ فَمَنْ قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ احْتَجَّ بِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ فَنَسَخَ هَذَا بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ.
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] قَالَ: نَسَخَتْهَا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَا يُجَادِلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا لَعَلَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ فَيَكُونُ كَمَا قَالُوا: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] مَنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ يُجَادِلُ وَيُقَالُ لَهُ الشَّرُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُعْطِ الْجِزْيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَمَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ احْتَجَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ حَسَنٌ لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ إِلَّا بِخَبَرٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ أَوْ حُجَّةٍ مِنْ مَعْقُولٍ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ أَيْ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُجَجِهِ وَإِذَا حَدَّثُوكُمْ بِحَدِيثٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالُوا فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَهَذَا الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَيَكُونُ الَّذِينَ ظَلَمُوا كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَهْلَ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ هَاهُنَا إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ أَيْ مَعْبُودُنَا وَاحِدٌ لَا مَا اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ خَاضِعُونَ مُتَذَلِّلُونَ لِمَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ.